الخميس، 24 نوفمبر 2011

الصبا وايام زمان

كتب: محسن هاشم

هل تذكر فلان؟.. اللي سافر معنا في "القطار" للقاهرةو "اسكندرية".. فلان يا راجل؟.. اللي كان منزل والده على ناصية شارعنا!، واللي كان معانا فى المدرسة واللى خالته جارتنا وكان ييجى يلعب معانا كورة وفاكر فلان المدرس اللى كان بيضربنا هل نسيته؟
اسئلة كهذه تعيدك لاستحضار صفحات من سجل تاريخك الشخصي ستضطر معها لاشغال عقلك وربما قلبك ووجدانك للغوص في غمار مسيرتك الحياتية التي تستطيع من خلالها تحديد من يكون "فلان"؟، لتجد نفسك -فعلاً- أمام اختبار لذاكرتك التي قد تنقذك بدعوى أنها لن تنسى أيام الصبا وحلاوة ربيع العمر أو ربما تخذلك معللة قصورها بهموم الزمان وغلبة النسيان.
ثقافة "تذكر فلان؟" ثقافة راسخة لا يحدها زمان ولا يحدها مكان، تستوقفك في شرق المعمورة وغربها، شمالها وجنوبها، تعايش معها الأقدمون ويمارسها المعاصرون، وعلى الرغم من صرامتها وصراحتها في تحديد مطالبها التي قد تقف عاجزاً عنها، إلاّ أن عزاءك في خسارتك أمامها يتمثل في أنها تعيد لك "الماضي" الذي طالما اقترن بالأصالة والصفاء والطيبة والبساطة التي ربما اجبرت النفوس على تذكرها والحنين لها.
الحنين للماضي
ولعل استقبال سؤال مثل هذا - تذكر فلان؟ - سوف يضطر معه المعني بالسؤال أن يستعيد شريط الذكريات، بل سوف يواجه السؤال بأسئلة تقديرية من شأنها أن تحدد له المكان والظرف والزمان كقوله: أي فلان؟ وأي مدرس؟ ومن ؟ وكذا تستمر الأسئلة والاجابات لتقريب هوية الشخص والحدث والمكان.
وتشير الدراسات إلى أن أولئك الأشخاص الذين عايشوا التغيرات الاجتماعية ودخلوا في مجتمعات جديدة ولم يتكيفوا معها؛ اضطروا - مجبرين - بحكم مرور الأيام أن يتعايشوا مع واقعهم الجديد، وهم أكثر الناس حنيناً إلى حديث الذكريات، ولذا وصف علماء النفس أولئك الذين يكثرون الحديث عن الماضي بأنهم - في الغالب - غير راضين عن واقعهم الحالي، ولا أدل برأيهم على ذلك، إلاّ حديث كبار السن عن "الغيط" و"الكتاتيب" و"الهواء النقى وهدوء القاهرة ورخص الاسعار"؛ في الوقت الذي يكثر فيه حديث أبنائهم أو أحفادهم عن "البلاك بيري" و"الفيس بوك" و"الكمبيوتر " و"القنوات الفضائية"، وعليه يرجع الكثيرون على أن من دواعي سرور كبار السن حديثهم عن الذكريات، فالماضي بالنسبة لهم "يعيداليهم الشباب حالا"، ولا أدل على ذلك إلاّ أبطال المذكرات الشخصية الذين ترجموا على انفسهم في الوقت الذي احيلوا فيه إلى المعاش.
لفتة جميلة
ولعل الشاهد على ذلك قصة الشاب "سليمان" الذي كلما أراد من والده شيئاً مهد له بالسؤال عن أيام صباه، واماكن هواه وحينها تبدو على الشيخ ملامح البهجة والسرور؛ فيعتدل فى جلسته ويمد رجليه ويبدأ بسرد الأحداث والقصص والأشعار التي لا تتوقف، بل تزيدها اسئلة "سليمان" التي تزيد من حنين والده وشوقه لسالف أيامه وسابق زمانه، ولا يفيق بعدها إلاّ وطلبات ابنه تنهال عليه؛ فيتقبلها كالنسيم العليل ما دامت انها جاءت بعد هذه المقدمة اللطيفة التي أعادت الشيخ إلى صباه.
ويذكر أحدهم أن من بره بوالده أنه يحرص على أن يجمعه بأصدقاء السنين الخوالي سنين، أو زملاء له حالت بينهم وبينه ظروف الزمان والمكان، وما أن يتقابلا إلاّ ويبدأ السؤال بتذكر فلان؟ والسنة الفلانية؟ حينها ما عليك إلاّ أن تستمتع بطرائف القصص و الحكايات والنوادر ،
ولأن السؤال "تذكر فلان" يمثل اختباراً ذهنياً لمدى امكانية الوصول إلى فترة زمنية تتمثّل في الغالب قاسماً مشتركاً بين السائل والمسؤول الذي طالما تمنى أن يكون فلان الذي سُئل عنه يمثل صدى جميلاً لذكريات أجمل،
موقف حميدان!

حديث الصبا
يظل الشعراء أكثر الناس قدرة على استحضار الماضي والتعبير عن الحنين الصادق للزمن الجميل والعيش السعيد، لا سيما وهم يعبّرون بالقافية المنتهية بحرفي النون والياء، وربما الألف عن أشواقهم للماضي، واستلهام أيام الصبا تحت بند "تذكر فلان؟" والأيام "الفلانية"، خصوصاً إذا ما قُرنت هذه الأيام بالغزل العفيف إبان لقاء العشيقين في مهد صباهم، ولذا زخر الأدب العربي والموروث الشعبي في الجزيرة العربية وفي كل حي نزلت به العرب بالقصائد المشهورة التي تحكي لك عن "ثورة الشوق والهيام والحنين" لسالف الليالي والأيام، ولا أدل على ذلك إلاّ وقوف الشاعر العربي أمام ما أجمع الأدباء على تسميته عمود الشعر العربي، فالشاعر الذي اقتصر غرضه الشعري على وصف الرحلة مع "فلان" أو تمجيد المعركة "الفلانية" سيضطر مشتاقاً لا مجبراً على وصف الأطلال، وتذكر المعشوقة التي لطالما قرنت بزمن الصبا الذي حافظ العرب على استلهامه طيلة العصر الجاهلي وصدر الإسلام حتى عصر بني أمية، وحينما تعايش العربي مع الحضارة والمدنية بمعناها في ذاك الزمان أثر انغماسه بحياة المدن على صفاء ذاكرته، ونقاء قصيدته واستحضاره لأيام الصبا وعهود الشباب، واستبدل العربي وقوفه على اطلال الأهل والخلان بمدح "فلان" والرد على "علاّن" وفي الوقت الذي كان "مجنون ليلى" يقف أمام "التوباد" مستحضراً "زمان الوصل" مع ليلى:
واجهشت للتوباد حين رأيته
وكبر للرحمن حين رآني
واذرفت دمع العين لما عرفته
ونادى بأعلى صوته فدعاني
يقف بعد أن سار به "قطار" العمر أمام منزل ليلاه مستهلاً قصيدته المؤنسة ذائعة الصيت بتذكر ليلى حين يقول:
تذكرت ليلى والسنين الخواليا
وأيام لا نخشى على اللهو ناهي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق